الهوكي في روسيا... رياضة الضباط وتاريخ من الهيبة الوطنية

رياضة الهوكي في روسيا تتجاوز الرياضة، لتصبح رمزًا وطنيًا للهوية، الإرادة والسياسة، من الحقبة السوفياتية حتى عهد بوتين.

  • الهوكي في روسيا... رياضة الضباط وتاريخ من الهيبة الوطنية
    الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يحيي زملاءه قبل مباراة هوكي في ملعب بولشوي في منتجع البحر الأسود في سوتشي، روسيا، يوم الجمعة 10 أيار/مايو 2019

لا تشكّل الرياضة مجرّد استعراض لقدرات الإنسان الفيزيائية، التي يعكس فيها الرياضيون سنوات من التدريب والتعب، بل هي انعكاس ومرآة للمجتمعات، هي مساحة للتعبير عن الذات الاجتماعية، ومكان يظهرون فيه تاريخهم. روسيا، البلد الذي عرف تاريخاً حافلاً من التحدّيات والانتصارات، كان له حضور دائم في عالم الرياضة، وتاريخ حافل من الإنجازات منذ الاتحاد السوفياتي، وصولاً إلى روسيا التي تواجه اليوم عقوبات رياضية، بعد عمليتها الخاصة في أوكرانيا، ولكن على الرغم من ذلك، لم تتوقّف روسيا عن تطوير نفسها في عالم الرياضة، فالأمر ثقافة شعبية واسعة، وخصوصاً في رياضة الهوكي.

هوكي الجليد: إرادة شعب تتجاوز الملاعب

في لعبة الهوكي تصبح كلّ نقطة أكثر من مجرّد هدف، بل هي رمز لشعب ناضل لسنوات طويلة وواجه الحرب ورسم صورة عظيمة للأمة. هوكي الجليد في روسيا ليس مجرّد رياضة، بل هو شهادة حيّة على الإرادة الصلبة التي لا تنكسر، تماماً كما كانت روسيا خلال أيام الحرب العظمى.

يوم النصر والهوكي: التقاء الذاكرة الرياضية والوطنية

  • الهوكي في روسيا... رياضة الضباط وتاريخ من الهيبة الوطنية
    أصبح الهوكي أحد أهمّ أسلحة الفخر الوطني الروسd ليُثبت أنّ القوة في الرياضة ليست مجرّد أرقام

عندما تحتفل روسيا بيوم النصر، الذي يحيي ذكرى الانتصار على النازية، نتذكّر كيف كان هذا اليوم أكثر من مجرّد علامة في التقويم؛ كان لحظة تصالح الأمة مع ذاتها، وتأكيداً أنها قادرة على التغلّب على أعتى الصعاب. تماماً كما في ملاعب الهوكي، حيث تُصاغ الانتصارات من العرق، والعمل الجماعي، والإيمان بالقدرة على التحدّي.

مع مرور الوقت، أصبح الهوكي أحد أهمّ أسلحة الفخر الوطني الروسي، ليُثبت أنّ القوة في الرياضة ليست مجرّد أرقام، بل هي في الروح التي لا تتوقّف أبداً. مثلما كان مارادونا رمزاً لأمّة الأرجنتين، أصبح هوكي الجليد في روسيا رمزاً لقوة وصمود لا يلين.

في قلب الاتحاد السوفياتي، كانت الرياضة رمزاً للهوية وللروح الوطنية. كان "الهوكي" في تلك الحقبة أكثر من مجرّد رياضة، كان ساحة ليثبت فيها الشعب السوفياتي عزيمته، تماماً كما فعل في ساحات المعارك خلال الحرب العالمية الثانية. كلّ هدف يُسجّل، وكلّ انتصار يُحقّق، كان بمثابة صرخة انتصار على الألم، وتأكيد القوة التي لا تُقهر.

يوم النصر، الذي يحيي ذكرى الانتصار السوفياتي على النازية، كان يُعدّ عيداً يتّحد فيه الشعب الروسي، ويحيي فيه ذاكرة الأبطال الذين بذلوا أرواحهم من أجل الحرية. لم يكن هذا اليوم مجرّد احتفال بالانتصار العسكري فحسب، بل كان أيضاً تذكيراً بأنّ الرياضة، مثل المعركة، هي ساحة تُظهر شجاعة الأمّة وتصميمها. في هذا السياق، أصبح الهوكي في روسيا أكثر من مجرّد لعبة؛ إنه أداة لتحقيق النصر على مستوى الروح والمجتمع.

جذور الهوكي: من رياضة النبلاء إلى ثقافة جماهيرية

  • الهوكي في روسيا... رياضة الضباط وتاريخ من الهيبة الوطنية
    كانت الرياضة جزءاً من المشروع السياسي الأوسع للاتحاد السوفياتي

تعود جذور الهوكي في روسيا إلى بداية القرن العشرين، عندما كانت الرياضة تُمارس بين الطبقات الأرستقراطية، حيث كان النبلاء يشاركون في مباريات غير رسمية على الجليد. في ذلك الوقت، كانت هذه الرياضة محصورة بفئة اجتماعية مُرتبطة بالثراء، ولكن مع مرور الزمن، أصبح لها طابع جماهيري وارتباط وثيق بالحياة العسكرية، خاصة بعد اندلاع الحروب الكبرى في أوائل القرن العشرين.

في الفترة ما بعد الثورة البلشفية، شهدت روسيا تحوّلاً جذرياً في العديد من المجالات، بما في ذلك الرياضة. فخلال الحقبة السوفياتية، كانت الرياضة جزءاً من المشروع السياسي الأوسع، الذي كان يسعى إلى تعزيز القوة الوطنية والهيبة. 

في هذه المرحلة، بدأت الهوكي تأخذ طابعاً رسمياً على يد الحكومة السوفياتية، حيث شُكّلت فرق خاصة تضمّ جنوداً وضباطاً من القوات المسلحة، وكان الهدف من ذلك ليس فقط الترفيه أو المنافسة الرياضية، بل أيضاً لتكريس الهوية الوطنية السوفياتية.

الحقبة السوفياتية: الهوكي كأداة سياسية واستراتيجية

  • الهوكي في روسيا... رياضة الضباط وتاريخ من الهيبة الوطنية
    سيطرت الفرق السوفياتية على البطولات الدولية وحقّقت مئات الانتصارات في المسابقات العالمية

خلال القرن العشرين، أصبحت الهوكي في الاتحاد السوفياتي أكثر من مجرّد رياضة. فقد تمّ ترويجها كأداة سياسية لتعزيز روح الجماعية والوطنية. في الخمسينيات والستينيات، قام الاتحاد السوفياتي بإنشاء فرق رياضية تابعة للجيش، مثل فريق سيسكا موسكو (CSKA Moscow)، الذي أصبح يُعدّ أحد الفرق الأكثر هيمنة في عالم الهوكي.

وكان للهوكي السوفياتي أسلوبه الخاص في اللعب الذي كان يعتمد على التعاون الجماعي والتنظيم التكتيكي، وهو ما جعل الفريق السوفياتي الأقوى عالمياً في هذه الرياضة لعدّة سنوات. 

كانت هذه الفرق تُدرّب على يد مدرّبين روس كسبوا شهرة كبيرة مثل أناتولي تاراسوف، الذي يُعدّ الأب الروحي للهوكي السوفياتي، وأصبح للرياضة قاعدة جماهيرية ضخمة في المجتمع الروسي، حيث اعتُبرت أداة لتقوية الروح الوطنية في مواجهة الغرب.

في الحقبة السوفياتية، سيطرت الفرق السوفياتية على البطولات الدولية، وحقّقت مئات الانتصارات في المسابقات العالمية مثل بطولة كأس العالم للهوكي. كانت هذه الانتصارات رمزاً للعظمة السوفياتية وتأكيداً لتفوّق النظام الاشتراكي في الرياضة على الأنظمة الرأسمالية في الغرب.

بوتين والهوكي: بناء صورة القائد من قلب الجليد

  • الهوكي في روسيا... رياضة الضباط وتاريخ من الهيبة الوطنية
    يُشرف بوتين شخصياً على فعّاليات رياضية مثل بطولة هوكي الجليد في سوتشي

عندما تولّى فلاديمير بوتين السلطة في روسيا في عام 2000، أصبح له دور بارز في الحفاظ على المكانة المرموقة للهوكي في البلاد. بوتين، الذي يُعدّ من أبرز المشجّعين لهذه الرياضة، لم يقتصر دوره على التشجيع الإعلامي، بل أصبح يشارك شخصياً في مباريات هوكي استعراضية في العديد من المناسبات.

في عام 2019، أظهر بوتين مهاراته في هوكي الجليد خلال مباراة استعراضية ضد مجموعة من لاعبي دوري الهوكي الوطني الأميركي (NHL) السابقين. سجّل بوتين في تلك المباراة 8 أهداف، وأثار إعجاب الكثيرين بمهاراته، ممّا عزّز صورته كقائد رياضي وقوي في عيون الشعب الروسي. 

في العديد من المناسبات، يُشرف بوتين شخصياً على فعّاليات رياضية، مثل بطولة هوكي الجليد في سوتشي، ويشارك فيها بلعب مباريات مع كبار الرياضيين المحترفين.

ولكن مشاركته في الرياضة لا تقتصر على الجانب الترفيهي فحسب؛ بل هي جزء من استراتيجية أكبر لتعزيز القوة القومية. يظهر بوتين في صورته كلاعب هوكي محترف ليس فقط للترويج للرياضة نفسها، بل لتعزيز الرسالة السياسية التي تُفيد بأنّ القوة الوطنية الروسية تشمل المجالات كافة، من السياسة إلى الرياضة.

الهوكي في المجتمع الروسي: رمز الانضباط والوحدة

  • الهوكي في روسيا... رياضة الضباط وتاريخ من الهيبة الوطنية
    يتمّ تدريس الهوكي في المدارس في سن مبكرة

إنّ مكانة الهوكي في روسيا تتعدّى حدود الملاعب الرياضية. تُعدّ هذه الرياضة أكثر من مجرّد نشاط بدني في المجتمع الروسي، فهي رمز للروح الجماعية والوحدة الوطنية. في روسيا، يتمّ تدريس الهوكي في المدارس في سن مبكرة، حيث يتمّ تشجيع الأطفال على المشاركة في المسابقات الرياضية، بما في ذلك هوكي الجليد، الذي يُعدّ أداة لتهذيب الشخصية وتعزيز الانضباط والعمل الجماعي.

كما تُعدّ البطولات المحلية، مثل دوري الهوكي الروسي، من الأحداث الرياضية الكبرى التي تجمع الجماهير. ففرق مثل دينامو موسكو وسيسكا موسكو من أعرق فرق الهوكي في العالم، وقد أنجبت العديد من النجوم مثل ألكسندر أوفيتشكين، الذي هو من أعظم اللاعبين في دوري NHL. إن نجاحات هؤلاء اللاعبين دليل على استمرارية الهيمنة الروسية في هذه الرياضة على المستوى العالمي.

التأثير المستمر: الدعم الحكومي وانتشار الهوكي بين الأجيال

  • الهوكي في روسيا... رياضة الضباط وتاريخ من الهيبة الوطنية
     أصبح هناك إقبال كبير من الشباب على ممارسة الهوكي نتيجة للدعم الحكومي

مع الدعم الحكومي الكبير للرياضة، وخاصة الهوكي، أصبح هناك إقبال كبير من الشباب على ممارسة هذه الرياضة. المدارس الروسية تُعطي اهتماماً خاصاً للهوكي، حيث يتمّ بناء ملاعب جليد متطوّرة، وتوفير المدرّبين المؤهّلين لتعليم اللاعبين الجدد. كما تموّل الأندية الرياضية التابعة للجيش الروسي بشكل كبير، مما يعزّز تأثير الرياضة في تشكيل شخصية الشباب الروسي.

كما أنّ صورة بوتين، الذي يُعدّ مثالاً للرياضي الناجح في نظر الكثيرين، لها تأثير كبير في تحفيز الأجيال الجديدة على الاهتمام بالرياضة. بالنسبة للكثير من الروس، يرون في بوتين رمزاً للقوة والنجاح في كلّ مجال، بما في ذلك الرياضة.

الهوكي في روسيا أكثر من مجرّد رياضة. إنه رمز للهوية الوطنية، قوة الدولة، وروح الجماعة التي تُعدّ جزءاً من ثقافة البلاد. من جذورها في الجيش السوفياتي إلى مكانتها البارزة اليوم في عهد بوتين، لا يزال الهوكي يشكّل جزءاً أساسياً من النسيج الاجتماعي والسياسي في روسيا. ولعلّ مشاركة الرئيس بوتين في هذه الرياضة تبرز الأبعاد السياسية التي أضفاها على الرياضة، مما يجعلها جزءاً من خطاب القوة والهيبة الروسية في الداخل والخارج.

 

اخترنا لك

OSZAR »